نظمت هيئة الشارقة للآثار محاضرة افتراضية بعنوان: “آثار مليحة وأهميتها في شبه الجزيرة العربية”، قدمها الأستاذ عيسى يوسف، مدير إدارة الآثار في هيئة الشارقة للآثار، عن مليحة ومكانتها عبر التاريخ كمنطقة استيطان بشري منذ آلاف السنين، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي المتوسط في شبه الجزيرة العربية، وعلاقاتها التجارية والاقتصادية، بالإضافة إلى أهميتها كمنطقة أثرية زاخرة باللقى والمخلفات المادية، منذ ما قبل الميلاد، وتطرق إلى أعمال التنقيب والحفريات فيها منذ بدايات سبعينيات القرن الماضي.
جاء تنظيم المحاضرة ضمن سلسلة المحاضرات العلمية الأسبوعية المتخصصة التي تنظمها الهيئة في إطار نشر الوعي بترميم وصيانة الآثار، وأدارتها آمنة آل علي، في هيئة الشارقة للآثار، حيث تجاوز عدد الحضور 170 مُشاركاً من المُهتمين بالحفاظ على الآثار والتراث الثقافي من داخل الدولة وخارجها.
“التنقيب الأثري يبرز هوية وإرث الشعوب”
وبدأ عيسى يوسف، حديثه بمقولة لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، وهي: “التنقيب الأثري يبرز هوية وإرث الشعوب”، وتطرق حول الأهمية الأثرية لمليحة في شبه الجزيرة العربية، حيث تناول عدة أمور متداخلة في مليحة وأثرها التجاري والثقافي، وقد كان في شبه الجزيرة العربية، كما يعلم الجميع، مدن وممالك وحضارات، لها تأثيراتها في محيطها، وكانت مليحة قد بدأت في الظهور نحو القرن الثالث قبل الميلاد، وعاصرت مواقع أخرى بين الأول قبل الميلاد والأول بعد الميلاد، مثل موقع دبا الحصن والدور، وصحار في عُمان، وغيرها.
البعثة العراقية
أشار مدير إدارة الآثار في هيئة الشارقة للآثار، إلى أن أول بعثة تنقيب أثري في مليحة تمت في بدايات سبعينيات القرن الماضي، من خلال بعثة تنقيب أثرية عراقية، بناء على اتفاقية تعاون ثقافية بين الإمارات والعراق، من بينها التعاون في مجال الآثار، وبقيت تعمل حتى العام ١٩٧٤م، وكانت البعثة قد اكتشفت مبنى القصر، وهو عبارة عن مجموعة من الغرف.
وحظيت المنطقة بعد اكتشاف مبنى القصر بزيارة خاصة من قبل المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي مكث نحو ساعتين هناك، حيث تسنَّى له الاطلاع على أعمال الحفريات والتنقيب الأثري والمكتشفات الناجمة عن تلك الأعمال، وبعد ذلك بسنوات قليلة جاءت البعثة الفرنسية في ثمانينيات القرن الماضي، واستندت في أعمالها على مسوحات البعثة العراقية، وفي التسعينات تم استكمال أعمال التنقيب الأثري من خلال بعثة محلية، برئاسة الدكتور صباح عبود جاسم، مدير عام هيئة الشارقة للآثار.
موقع استراتيجي
تتبع منطقة مليحة للمنطقة الوسطى من إمارة الشارقة، وتقع في الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية، وهي منطقة داخلية بالقرب من الخليج العربي وبحر عمان، وكانت تعتبر ممراً للقوافل على بحر عمان والخليج العربي، ومن هنا فهي موقع استراتيجي جغرافي وتاريخي مهم، وتُعتبر أحد أكبر المواقع الأثرية في المنطقة، ويتوافر فيها مناظر طبيعية خلابة، وهناك قمة جبلية تعتبر نقطة تمييز بين الشمال والجنوب.
ولفت عيسى يوسف إلى أن منطقة المليحة كانت على تواصل دائم مع باقي الحضارات التي نشأت في حوض البحر المتوسط وجنوب آسيا وجنوب الجزيرة العربية وشمالها، بالإضافة إلى وادي الرافدين ومناطق شرق الجزيرة العربية، وقد تم فيها اكتشاف العديد من جرار الأمفورا الإغريقية ومقابضها التي لا تزال تحمل علامة صانعيها حتى يومنا هذا، ويعتبر هذا الاكتشاف الدليل الأول على العمليات التجارية بين منطقة الإمارات والحضارات الإغريقية، وقد تم عام ١٩٩٤م، العثور فيها على مقبرة تضم ٢٦ قبراً منها ما هو مخصص للجمال، ووُجد في إحدى هذه المقابر هيكلان عظميان أحدهما لجمل وآخر لحصان، كان قد دفن بكامل لجامه المزين بأقراص ذهبية.
وأشار إلى أن مليحة مليئة بالبقايا الأثرية، وكذلك في غرب مليحة كانت توجد منطقة تجمع مياه عبارة عن بحيرة للمياه العذبة نتيجة تساقط الأمطار، وكان فيها نحو ٢٧ بئراً، ولفت إلى أن مباني مليحة في البدايات كانت عبارة عن مبانٍ خفيفة مثل الخيام أو العرشان، ولعلها شهدت في تلك المرحلة هجرة متزايدة للموقع، للسكن والاستيطان في الموقع المهم على طريق القوافل، من قبل بعض الجماعات الاجتماعية والقبائل الذين غادروا تيماء إثر تعرضهم لغزو، فاستقروا في مليحة، ومن هنا شكلت مليحة حلقة ربط بين الثقافة الموجودة في شمال الجزيرة العربية، وجنوب غرب الجزيرة العربية، والثقافة الشرقية.
ولفت يوسف، إلى أنه تم العثور على ١٦٠ مدفناً من خلال بعثة التنقيب المحلية، و٩ مدافن من خلال البعثة البلجيكية، و٦ مدافن “البعثة الفرنسية”، ومدفنان “البعثة العراقية”، وهي مدافن بشرية ، ومدافن حيوانية، خصوصاً للجمال والأحصنة، حيث تم العثور على ١٩ هيكلاً عظمياً للجمال، (من بينها ٣ جمال هجينة)، و٢ للأحصنة، بالإضافة إلى عظام طفل يعود تاريخه إلى 45 ميلادي وجد داخل إحدى المباني السكنية.
حصن مليحة
تم اكتشاف حصن مليحة من خلال أعمال البعثة الأثرية الفرنسية، وهو عبارة عن مبنى كبير الحجم والمساحة، مشيد باللبن وفق تخطيط مربع الشكل تقريباً، ويحتوي على ٨ أبراج، يتوزع ٤ منها على زوايا المبنى الأربع، في حين ينتصب برج آخر في منتصف كل ضلع منه، ويقع البرج الرئيس الذي يضم المدخل في منتصف الجدار الشرقي، وهو أكبر حجماً من جميع الأبراج الأخرى، ويؤدي المدخل إلى ردهة مستطيلة الشكل تضم دكَّات للجلوس، أقيمت بالقرب من جدران الردهة، التي ربما كانت قد استعملت كغرفة لحراس المبنى.