دولة الإمارات العربية المتحدة
إمـــــــــــــارة الشـــــــــــــــــــارقة
المجلــــــــــس البلــــــــــدي لمدينــة دبا الحصــــن
قائمــــــــــــة التـــــــــراث الثقــــــــــــافي
(2) القَاشَع
جاد البحر ومنذ القدم على أهل مدينة دبا الحصن بالكثير من الخيرات والنعم، ونجد أن أهلها استغلوا كل خيراته وسخروها لتتناسب مع طبيعة حياتهم، فقد سخروا كل خيراته لصنع مؤن الشتاء والصيف، حيث اعتمد سكان مدينة دبا الحصن على أبسط المواد لكي تمدهم بالعناصر الغذائية التي تحتاجها أجسامهم، والبحر كان لهم بمثابة الشجرة المثمرة طوال العام.
ما إن يدخل الشتاء حتى تعود الأسماك إلى السواحل الدفيئة لتتكاثر، حاملةً معها مواسم زاخرة بشتى الأنواع اللذيذة والمتنوعة من الأسماك متفاوتة الأحجام، بحيث يتزامن وجود الأسماك الكبيرة في الساحل مع تكاثر أسماك “البرية” الصغيرة التي هي أساس غذائها. فتمتلئ شباك الصيادين بأسماك “البرية” عند ممارستهم الصيد بطريقة “الضغوة”. وعرفت أسماك البرية بهذا الاسم نسبةً إلى قرب وجودها من البر. الأمر الذي سمح للصيادين باستغلال هذه الكميات عبر تجفيفها وتعليبها لمواسم تالية. ويذكر من يمارسون هذه المهنة بأن “القاشع” هو الاسم الذي أطلق على أسماك “البرية” بعد تجفيفها وهي من أفضل أنواع حفظ وتعليب السمك محلياً، والتي تسمح باستخدام السمك لفترة تتجاوز السنتين إذا ما أتقن حفظها.
تنتشر أسماك “البرية” التي تتميز بلونها الفضي اللامع ومذاقها الشهي في مدينة دبا الحصن على ساحل بحر عمان في المنطقة الشمالية الشرقية من إمارة الشارقة، وتجتذب إليها أهل البحر. تأتي أسماك “البرية” الفضية ذات الرائحة الجاذبة للأسماك الكبيرة كأحد أهم وسائل الصيد التي يمارسها الصيادون، حيث تجد الأسماك الكبيرة في البرية غذاءً لها. يتم جمع كميات كبيرة من البرية – آلاف الكيلو جرامات – في كل رحلة صيد وبعد تجفيفها على الشاطئ بواسطة حرارة الشمس تتم تعبئتها في أكياس بلاستيكية خاصة. تسمى البرية بسمك “القاشع” وهي صغيرة الحجم لا يتجاوز طولها 5 سنتيمترات، لونها براق وتباع في أكياس (يحوي كل كيس نحو 10 كيلو جرام، ويبلغ سعره نحو 22 درهماً). ونجد البحارة خلال المواسم التي تتكاثر فيها البرية يرمون شباك الصيد ذات الثقوب الصغيرة من المركب إلى البحر لصيدها ويستمرون بذلك لساعات، ثم يتم تجفيفها سريعاً لأنها صغيرة الحجم ويرش عليها الملح – دون حاجة إلى فتح بطنها وتنظيفها- وتجفف على الساحل، تتعدد أساليب صيد البرية، وتختلف بين صياد وآخر. الطريقة التقليدية الرائجة عن طريق جر الشباك وجذبها من البحر إلى الشاطئ. ثمة استخدامات للبرية يستفيد منها الإنسان والنبات والحيوان، تتعدد فوائد البرية فهي غذاء لنا نجففها ونملحها ونأكلها في وجبات مختلفة كأن نسحنها ونحتفظ بها مطحونة لحين الأكل ونضيف إليها الثوم والزيت، وهناك من يضعها في وعاء بعد تتبيلها بالجلجان والكمون والسنوت وحبة الحلوة، ليأكلها بخبز الرقاق. كما كانت البرية دواءً مفيداً حيث يحرق بعضها على النار مع ليمون يابس، ثم توضع في قماشة يشمها مريض الزكام ليُشفى. كما تقتات عليها عدة طيور من بينها النوارس وكذلك سمك الكنعد وأسماك أخرى. إلى جانب كونها علفاً للحيوانات وخليطها مع نوى التمر والبرسيم مفيد لمعظم المواشي خاصة الأبقار، وهي سماد معقول لإخصاب الأراضي الزراعية إذ تقطع وتدق وترش كبذار تحت النخل النبق والغاف وأشجار مثمرة أخرى.
يعتمد إنتاج “القاشع” على نشر أو ترويح الأسماك الصغيرة فور خروجها من البحر على بساط من الحصير أو النايلون لفترة تمتد من يومين إلى ثلاثة حسب شدة أشعة الشمس، للتأكد من تجفيفها بصورة جيدة مع التقليب باستمرار حتى لا تفسد عند التعليب. وترفع بعد ذلك في أكياس صغيرة لا تتجاوز 50 سنتيمتراً وتباع بأسعار قد تصل إلى 120 درهماً للكيس حسب جودة الإنتاج ونظافته من الأتربة. إذ سمي “القاشع” بذلك لأنها تقشع وهي بالمحلي نزعها من التراب بعد عملية تجفيفها. ويعتمد جودة المنتج على مدى نظافته وعلى صغر حجمه، فكلما كانت أسماك “البرية” صغيرة وتميل إلى اللون الفاتح كلما كانت أغلى وألذ في الطعم.
يدخل في موسم “القاشع” ثلاث أحجام من سمك “البرية” حيث يبدأ الموسم وينتهي بالأسماك ذات الأحجام المتوسطة والمائلة إلى الحمرة التي تؤخذ في الغالب كطعام للحيوانات أو كسماد للنباتات، أما الأسماك الصغيرة المائلة إلى البياض فتأتي في منتصف الموسم وتتميز بلذة طعمها وجودتها.
القاشع يساهم في تقوية الروابط الاجتماعية فمع دخول موسم “القاشع” يصبح الشغل الرئيسي الذي تمارسه النسوة والجارات في تجمعاتهن في الأحياء “الفرجان”، حيث تحمل النساء أوعية “القاشع” معها لتتسلى مع جاراتها بتقطيع أو تقطيف رؤوس الأسماك الصغيرة بهدف تنظيفها وإعدادها لصنع طبق “السحناه”، وذلك بالاحتفاظ بجذع السمكة الصغير وسحقه بعد ذلك في “المنحاز” مع إضافة بعض المنكهات الاختيارية التي تتباين بين الفلفل الأسود و”السنوت” وهو الكمون لإضفاء الطعم المطلوب عليه.
وجاء ابتكار “السحناه” وهي مسحوق أسماك “القاشع” المجفف، كوجبة عند أهل مدينة دبا الحصن بهدف استغلال كل موارد البحر بالدرجة الأولى ولتكون زادهم في الطريق ورحلات السفر الطويلة عندما لا تتوفر الأسماك الطازجة، فضلاً عن أنها جاءت من باب التنويع في تقديم الأطباق البحرية التي كانت مصدر غذائهم الأساسي، مما جعلهم يتفننون بصناعات ونكهات خاصة من السمك. و”السحناه” إحدى هذه الأطباق اللذيذة التي تؤكل مع الأرز الأبيض والليمون والسمن البلدي.
تسمى السحناة سمك الأنشوفة أو الأنشوجة، تصاد بنوع خاص من الشباك بعملية خاصة تسمى الضغوة، تجفَّف تحت أشعة الشمس ثم تطحن بعملية تسمى السحن، ومنها استمدت اسمها السحناه، وهي من أطعمة السفر، تؤكل مع الأرز الأبيض والسمن البلدي.
ويختص أهالي مدينة دبا الحصن بهذا الطبق عن غيرهم من أهل الإمارات الأخرى، إذ تميزوا في صنعه وتقديمه على موائدهم فمنهم من يأكل “السحناه” وهي جافة مع الأرز والليمون، ومنهم من قدمها على هيئة صلصله عبر إضافة بودرة “السحناه” إلى الماء الدافئ وتطعيمها ببعض النكهات من البهارات.